رغم الأهمية التي يعطيها محمّد للتدوين، لا يمكننا أن نتوقّع مقدارًا كبيرّا من الكمال أو أمانة حرفية، أقلّه في مكّة، حيث كان صراعه لكسب اعتراف الناس به مرسلاً من الله صراع حياة أو موت. بسبب الظروف الخارجية الضاغطة، بقي التدوين، حتى ولو كان في نية محمّد منذ البداية، مجرّد مشروعٍ لأكثر من مرّة. ولكن، في وقت مبكّر كان كلّ شيء يحفظ في الذاكرة التي كانت تخون النبيّ في بعض الأحيان. لهذا تراه، في سورة البقرة : ٢. ١٠٠/١٠٦ يعزّي المؤمنين، بقوله إنّ الله سوف يمنحهم بدل كلّ آيةٍ ذهبت ضحّية النسيان آيةً أفضل
عدا التدوين الذي كان محمّد نفسه وراءه، ربما كانت هناك أيضًا عمليات تدوين أخرى تتفاوت في حجمها، قام بها مناصرون غيورون لتعليمه بأنفسهم أو أوكلوا بها أخرين. إلى جانب هذا، كان هناك الحفظ في الذاكرة، الذي كان، في وقت كانت القراءة والكتابة من الفنون النادرة، ذا أهمّية كبيرة. إضافة إلى العدد غير القليل من الصحابة الذين حفظوا غيبًا مقاطع قصيرة، بقدر ما كان هذا ضروريًّا لتلاوة الصلوات، كان هناك أفراد استطاعوا أن يشحنوا ذاكرتهم بمقاطع أطول ويتلوها بأمانة الكتاب، وبهذا استطاعوا أن يحفظوا جزءًا من الوحي، لم يدوّن نصّه أبدًا أو ضاع في ظروف معيّنة، من الفقدان التام.
إحدى الروايات التي تعود إلى زيد بن ثابت تدّعي أنَّ القرآن، في تلك الفترة، لم يكن قد جمع أبدًا، فإن وراء هذا القول تصوّر آخر يقوم على الأخبار التي تتحدّث عن سخةٍ أنجزها أبو بكر حسب هذه الأخبار كان الخليفة قد وجد نصوص الوحي مبعثرة ومتفرّقة أو، كما يضيف السيوطي، غير مجموعة في مكان، أو مرتّبة في سور. لا تتفق هذه النظرة تمامًا مع ما توصّلنا إليه من نتائج في الفصول السابقة، حيث قلنا إنّه لم يكن هناك سور فحسب، كانت منذ البداية تشكّل وحدات أدبية، بل أيضًا سورٌ كان محمّد نفسه قد وضعها في أوقات لاحقة انطلاقًا من مقاطع من أصول مختلفة.
لا يمكن للمرء أن يتصوّر إلى أيّ درجة كانت معرفة القرآن يسيرة عند مسلم عاديّ من بدايات الإسلام. فبعد معركة القادسيّة أمر عمر قائد الجيوش سعد بن أبي وقّاص أن يوزّع البقايا الكبيرة من الغنائم على «حملة القرآن». فلما أتى إليه عمر بن معد يكرب، رجل الحرب المشهور، وسئل عن معرفته بالوحي، اعتذر قائلاً إنّه اهتدى إلى الإسلام في اليمن، وكان دائمًا بعد ذلك في الحرب، ولم يكن لديه الوقت الكافي، ليحفظ القرآن غيبًا. أمّا بشر بن ربيعة الذي من الطائف، فأجاب، حين بادره سعد بالسؤال نفسه، بالجملة الافتتاحية، «بسم الله الرحمن الرحيم» .
وحين توجّه إلى الأنصار في معركة اليمامة قائدهم مشرّفًا إياهم بدعوتهم ((أهل سورة البقرة»، أسف أحد المحاربين من طيء لأنّه لا يعرف من هذه السورة ولا آية واحدة غيبًا .
عند المسلمين، كما رأينا، ثلاثة آراء مختلفة، حول نشوء المجموعة القرآنية الأولى . بحسب الرأي الأوّل - وهو التقليد السائد - تمّ هذا الجمع في أيام أبي بكر، وبحسب الثاني في أيام عمر، أمّا بحسب الرأي الثالث فقد بدأ العمل في أيام أبي بكر وانتهى في أيّام خلفه.
إنّ ربط جمع القرآن بمعركة اليمامة ربطٌ ضعيفٌ جدًّا . يشير كتاني .ا) إلى أنّنا نجد في لوائح المسلمين الذين سقطوا في عقربا ممن تنسب إليهم معرفة واسعة بالقرآن، وذلك لأنّهم كلّهم تقريبًا ينتمون إلى صفوف المهتدين حديثًا. ولهذا السبب، ليس صحيحًا أنّ كثيرين من حفظة القرآن سقطوا في هذه المعركة وأنّ أبا بكر كان قلقًا من هذا، كما تدّعي بعض الروايات. ليس من اعتراض على هذا، طبعًا، إذا افترضنا، أن اللائحة التي وضعها كتاني، والتي تضم ١٥١ شخصًا ممن فقدوا في المعركة، كاملة، وأنّ معرفتنا بحفظة القرآن في ذلك الوقت معرفة كاملة إلى حدّ ما .
لا يساعدنا مضمون الرواية على معرفة ما إذا كان في هذا الخليط من التناقضات والأخطاء شيء من الحقيقة التاريخية. لهذا علينا أن نحاول إيجاد نقاط ارتكاز في شكل الرواية لكي نصل، بتحليل أدبيّ، إلى النواة الأقدم. يدعم العدد الكبير من الروايات أن يكون جمع القرآن مسألة تتعلّق بالدولة.
إنّ الصورة التي نملكها عن وضع تدوينات القرآن بعد موت محمّد شديدة الغموض. إضافة إلى كون هذه التدوينات مبعثرة وغير منظّمة، فقد كانت محفوظةً على أكثر من عشرة أنواع من المواد على الأقلّ. ثمّة ما يثير الريبة في أنّ في الرواية مبالغة كبيرة، إمّا لإبراز جدارة الجامع، أو للتأكيد، بقوّة، على بساطة الزمن القديم .
من السنوات العشرين التي تفصل ما بين موت محمّد ونسخة عثمان، وصلت إلينا، بالإضافة إلى (صحف) حفصة أربع مجموعات شهيرة يقف وراءها الأشخاص الذين تحمل أسماءهم. وربما وجدت نسخ أخرى لم تكن لها هذه الأهميّة، لذلك لم يبق لها أثر في الروايات. تذكر الوثائق أسماء أشخاص أربعة عملوا على المجموعات القرآنية، وهم أبيّ بن كعب، وعبدالله بن مسعود، وأبو موسى الأشعري، والمقداد بن الأسود.
فيما يتعلّق بانتشار النسخ التي تعود إلى هؤلاء الرجال، فقد استعمل الدمشقيون، أو بالأحرى السوريون، قراءة أُبيّ، والكوفيون قراءة ابن مسعود، وأهل البصرة قراءة أبي موسى، وسكان حمص قراءة المقداد.
ولا عجب أن نكون نسختا ابن مسعود وأبي موسى قد لاقتا رواجًا في الكوفة والبصرة، وذلك لما لهذين الرجلين من مكانة مرموقة في تلك المدينتين. من جهة أخرى، لا نعرف شيئًا عن علاقة ظاهرة للمقداد بحمص ولأبي بسوريا
من نسخ هؤلاء الرجال لم تصلنا ولا واحدة. لذا، ليس بمقدورنا الإجابة على الأسئلة حول شكلها وترتيب النصّ إلاّ برجوعنا إلى مصادر غير مباشرة. أمّا نسخة المقداد، فلا أثر لها حتى في هذه المصادر. عن أبي موسى لا نعرف إلا ما ورد عنه في «الإتقان)) ١٥٤ ، وهو أنّه ضمّ إلى قرآنه سورًا من أُبيّ، والروايات التي نتحدّث على آيتين لم تردا إلاّ في نسخته
ثمّة أمر ذو أهمّية كبيرة، وهو أنّ مجموعة أبي تحوي سورتين لا نجدهما في النسخة الرسمية. وترد هاتان السورتان تارةً باسميهما الخاصّين، سورة الخلع، وسورة الحفد، وطورًا باسم الاختصار، سورتا القنوت، أو حتى سورة القنوت. أمّا تسميتهما (دعاء القنوت)، أو «دعاء الفجر»
بما أنّ هذه النصوص صلوات شكلاً ومضمونًا، لا يمكن نسبتها إلى الوحي إلا إذا كانت مسبوقة بالأمر (قل»، الذي يستعين به القرآن ليضفي الشريعة على الصلوات - مثل سورة الفلق ١١٣ والناس ١١٤ - وكلام محمّد الذاتي بكونها كلام الله. غير أنّ لفظ ((قل)) يغيب في بداية هاتين السورتين. لكن هذا بالضبط هو احد الاسباب التي تدعونا إلى الشك في أن تكون الفاتحة جزءًا من الوحي.
أمّا المعلومات المتعلّقة بثلاث آيات مفقودة، كانت في قرآن أُبيّ، فمؤكّدة.
تقول الآية الأولى: (لو أنّ لابن آدم واديًا من مال لا بتغى إليه ثانيًا ، ولو أنَّ له ثانيًا لا بتغى إليه ثالثًا، ولا يملأ جوفَ ابن آدم إلا التراب، ويتوبُ الله على من تاب)). وردت هذه الآية، كما يظنّ، في سورة يونس ٢٥/٢٤ : ١٠، أو في مكانٍ ما في سورة البينة ١٦٠) ،٩٨) وهو أمر مستحيل نظرًا لاختلاف الفاصلة. كما يصعب إيجاد موضع آخر لها، وذلك لأنّ العبارة المستعملة هنا للإشارة إلى الإنسان، «ابن آدم»، غير قرآنية.
وتقول الآية الثانية: (إنَّ الدينَ عند الله الحنيفيةُ السمحةُ لا اليهوديةُ ولا النصرانيةُ، ومن يفعل خيرًا فلن يكفرَه)). يعتقد أنّ هذه الآية تنتمي إلى سورة البيِّنة ٩٨، وهو أمر غير ممكن لاختلاف المضمون والفاصلة. وهي، على الأرجح، غير أصيلة، فالأسماء المستعملة للإشارة إلى الديانات الثلاث المختلفة غريبة عن القرآن
وتقول الآية الثالثة: ((لا ترغَبوا عن آبائكم، فإنَّه كفر بكم. الشيخُ والشيخةُ إذا زنيا فارجموهما البتة نكالاً من الله، واللهُ عزيزٌ حكيم)). لا يمكن أن تكون هذه الآية المسمّاة (آية الرجم» جزءًا من سورة الأحزاب ٣٣ - وذلك لاختلاف الفاصلة - أو من القرآن بشكل عام، لأنّ هذه القوانين الجزائية الرهيبة، كما بيّنت آنفًا، لم تظهر إلا بعد موت محمّد
وفي المناسبة عينها تلا أبو موسى، كما يروى، آية أخرى، كانت تنتمي إلى سورة تشبه السور المدعوة «المسبحات)). لا تساعدنا الرواية على أن نعرف ما إذا كانت هذه السورة قد ضاعت، أو أنّ أبا موسى كان يتلو من سورة معروفة في نسخنا، ولكنّ اسمها غاب عن ذاكرته. تقول الآية: ((يا أيها الذين آمنوا لِمَ تقولون ما لا تفعلون، فتُكتَب شهادة في أعناقكم فتُسألون عنها يوم القيامة)) يتطابق الجزء الأوّل من هذه الآية مع سورة الصف ٢ :٦١. أمّا الجزء الثاني فيستحيل أن يكون ورد في سورة الصف ٦١ أو في أيّ من السور المسبِّحات الأخرى، بسبب اختلاف الفاصلة.
ليس من المستبعد، لا بل يرجَّح، أن يكون هناك، بالإضافة إلى المجموعات القرآنية الشهيرة التي تحدّثنا عنها، نسخ أخرى، لم تحظ بشهرة كبيرة، ولذا لم تترك أثرًا في المصادر. أمّا أن يقال مثلاً إنّ بعض رفاق النبيّ، كعليّ، قد رتّبوا السور زمنيًّا، فرواية لا تستحقّ التصديق.ذلك لأنّ هذا الترتيب يفترض فترة عمل
تفسيريّ علميّ طويلة، هذا إذا لم يكن القيام بهذا الترتيب مستحيلاً لأنّ محمّد نفسه، في التدوين الذي أمر به، كان يربط الآيات الحديثة بالقديمة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق